Saturday, December 21, 2013

تيجي نروح إسرائيل!


منذ الصبا المبكر وأنا مسكون بعشق الشّام، مُتيَّم بكل ما هو شامي، حتى أنني أحب لقب "الشّامي" الذي تحمله عدة أسر منتشرة في شتى ربوع مصر، بدأ غرامي بالشّام والشّوام منذ أن كنت مراهقًا أكتشف أصوات كبار مطربيه مثل صباح فخري وغيره من أساطين القدود الحلبية، ورحت أتقصَّى تاريخ الشّام وحضارته، وكل ما يتعلَّق به على مدار عمري كله، ولم أزل.
تداعت إلى مخيلتي هذه الصور وغيرها، بينما كنت أستقل الطائرة التي ستحملني لبلاد "الحلا" ورحت أُمنّي نفسي بسهرات فícute; حلب، وجولات في أسواق دمشق القديمة وتسكُّع على مقاهيها، واستمتاع برؤية "ظبايا الشام "، المشهود لهن بحسن الخُلق والخِلقة، ولا بأس بركعتين في ضريح الطاهرة "السيدة زينب"، ومناوشات فكرية مع زملاء هناك، وربما فكرت أيضًا في زيارة الريف والبادية.. كل هذه الأمنيات راحت تتراقص في ذاكرتي، وتداعبني حتى حطّت بنا الطائرة على مطار دمشق، وبعدها كان ما كان.


لم تمض سوى نصف ساعة أو أكثر قليلاً حين استوقفني أحد رجال الأمن وهو يطالع جواز سفري لمنحي التأشيرة، وبعد أن راجع قائمة أمامه، طلب مني أن أنتحي جانبًا ريثما يُنهي "مشكلة ما" وصفها بأنها "روتينية" ولن تستغرق وقتًا، وبالفعل امتثلت لأمره، وجلست في ركن أشار إليه، وكالعادة رحت أدخِّن بشراهة، وأعبث بهاتفي النقَّال، الذي حمل لي رسالة ترحيب من إحدى شركات الاتصالات، كما هو الحال في شتى بلا
د العالم.
دقائق لا تزيد عن العشر، بعدها وصل رجل يرتدي الملابس المدنية، وتبدو على سيماه ملامح صارمة وربما كانت معادية، وطلب مني أن أتبعه، وحين سألته عما إذا كان ينبغي أن أحضر حقائبي، فأشار إلى أنها هناك، وبالطبع لم أكن أعرف أين هو، ما هو هذا الـ"هناك" الذي وصلت إليه، وكان مكتبًا حكوميًا يتبع دائرة أمنية، لا أعرف اسمها الحقيقي، ولم أهتم بصراحة، فقد كان كل همّي حينها أن أفهم ماذا يحدث، ولماذا؟ وإلى أين يمكن أن ينتهي هذا الأمر؟

ساعتان وأكثر يا عزيزي المواطن العربي الكريم، و"صاحبكم" يجلس على مقعد يعلم بحاله ربنا، في قبو لا يختلف كثيرًا عن السجن، إلا أنه يبدو "انتقاليًّا"، وبعدها حضر شاب بشاربين مفتولين، قدم نفسه بصفته الضابط المسؤول، وراح يمطرني بالأسئلة عن كل شيء يخصني تقريبًا، من مهنتي "المشبوهة" وهي بالطبع الصحافة، وصولاً لنوع السجائر التي أدخنها، وهي بالمناسبة "مارلبورو" أحمر.
كنت أجيب على أسئلته بكل ما أوتيت من رباطة الجأش والصبر الجميل، وأحيانًا كنت أبتسم.. تارة بنّية السخرية، وتارة أخرى لكسر أجواء الصرامة والجّهامة التي يفرضها الأخ الضابط، لكن هيهات.. فقد مضى التحقيق نحو ساعة، وبعده انصرف دون أن ينطق ببنت شفة، اللهم إلا وهو على باب الغرفة، التفت صوبي قائلاً (باشمئزاز) إن حالتي قيد الفحص وسيبلغني بالنتيجة بعد قليل.

هذا "البعض قليل" يا سيدي المواطن العربي الهُمام استغرق أكثر من ساعة حتى وصل ضابط آخر، يبدو أرفع رتبة، وأكثر تجهمًا، إذ بادر بمخاطبتي كأنني "سفير الشيطان"، قائلاً إنني "شخص غير مرغوب به على الأراضي السورية، وإن هذا قرار سيادي ليس مضطرًّا إلى تقديم أي تفسير له، وينبغي أن أحمل حقائبي التي بدا واضحًا أنها تعرضت لتفتيش عاصف، حتى بدت محتويات الحقيبة كأنها جُمعت من سلة مهملات، وأعود من حيث أتيت.
وبالطبع لم يكن هناك خيار أمام "صاحبكم" سوى أن تحمله الطائرة عائدًا إلى القاهرة، وطيلة رحلة العودة رحت أتذكر مقالات ومقابلات تلفزيونية انتقدت فيها سياسات وتصريحات بعض كبار المسؤولين السوريين، التي لا يتسع المقام للخوض فيها هنا، وأدركت سبب ما حدث، وحمدت الله تعالى أن الأمر انتهى عند هذا الحدّ، ولم يتطوَّر لما هو أسوأ.
***
 قصة الطرد من سوريا هذه حدثت منذ نحو عام ونصف العام، وحينها آثرت الصمت إذ لم أجد فائدة تُرجى من التصعيد، فمن حكم في بلاده ـ خاصة حين يرثها عن أبيه ـ فما ظلم، لكني أبتسم بمرارة، كلما استمعت للمسؤولين السوريين وهم يلوكون شعار حزب "البعث" الشهير: "أمة واحدة.. ذات رسالة خالدة"، بعد أن أدركت ـ جيدًا ـ معنى "الأمة الواحدة"، و"الرسالة الخالدة".

 ***
خلال الأيام الماضية زارني في القاهرة صديقي الإعلامي النجم تركي الدخيل، واقترح أن أرافقه لمحطته الثانية التي ستحمله إلى بيروت لنستمتع بحضور حفل فيروز الأخير في "البيال"، وبالفعل شرعت في ترتيب أوضاعي تأهبًا لهذه الرحلة، فمن يدري إن كان سيُتاح لي ثانية أن أشاهد فيروز وأسمعها عن قرب، وأنا الذي تربيت على صوتها، وما زلت أقيم على ضفافه.
اتصلت بصديق وزميل صحفي لبناني، عملنا معًا في عدة صحف، فأعرب عن دهشته من سذاجتي، وكيف أفكر بزيارة لبنان، وأنا الذي سبق أن هاجمت "حزب الله"، ووصفته بأنه "مقاول حرب" لصالح طموحات إيران الإقليمية، وكيف يفوتني أن "حزب الله" يهيمن بصيغة أو أخرى على مطار بيروت، ويمكن لرجاله أن يتصرفوا معي على نحو أبشع مما حدث في سوريا، لأن الأخيرة في نهاية المطاف "دولة"، ولن تنزلق لسلوك الميليشيات الذي يتصرف به "أشاوس المقاومة"، أو "المقاولة"، لا فرق بالمناسبة، ونصحني الزميل بعدم الإقدام على هذه المخاطرة، وأن مخلوقًا وقتها لن يستطيع أن يضمن سلامتي، لأن القرار سيكون في طهران.. "قلب المقاومة النابض".

 ***
بالطبع يعرف القاصي والداني أن الحصول على تأشيرة "تشينجن" التي تتيح للمرء أن يتجول في كل دول الاتحاد الأوروبي أسهل كثيرًا من الحصول على تأشيرة دخول أي دولة خليجية، فالعرب ـ كما كانت دائمًا ـ عربان، فقديمًا قرأنا عن جدلية "العرب العاربة، والمستعربة"، والآن هناك ثنائية معاصرة دعونا نسميها: "عرب الزيت، وعرب الماء"، وما بينهما من حواجز سياسية ونفسية.
حتى في السودان يا إلهي.. الذي كان ذات يوم "جزءًا طبيعيًا" من مملكة وادي النيل، ليس بوسع "صاحبكم" المنكوب بلسانه ـ الذي لا يملك سواه سلاحًا ـ أن يزوره، ويضمن عودته سالمًا، بعدما خطته أنامله الآثمة بحق الفريق الركن، الذي يُصّر على البقاء فوق عرش تتهاوى أركانه وتتقطع أوصاله، وما زال الأخ البشير يخطب ويلوح بعصاه، بينما الجنوب على وشك الوشك، وهناك كارثة إنسانية في دارفور، وأخرى تتعاظم في الشرق، وخلافات لا حصر لها في الخرطوم ذاتها، ومع ذلك يتحدث الفيلدمارشال عمر البشير والذين معه من "الدبابين" عن الوحدة والتنمية!
 ***

 أما ليبيا فأنا على ثقة ويقين بأن لجان الأخ القائد لن تمنعني من دخول البلاد، لكن في المقابل كلي إيمان راسخ، بأنني لو فعلتها فلن أخرج ثانية، بل سأتبخَّر كما حدث مع من هُم أعلى مني شأنًا، ولن يكون "فرسان اللجان" أكثر رأفة بحالي من المرحوم الزميل الصحفي الليبي ضيف الغزال الشهيبي، الذي وُجدت جثته في مطلع يونيو 2005م، على شاطئ مدينة بنغازي بعد أكثر من أسبوعين من اختفائه، وبدت مظاهر التعذيب واضحة في جثته المشوَّهة.. ولا يزعم أحد معرفة ما كان يشعر به الفتى وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، أو ما نطق به حين كان المنشار الكهربائي يقطع أصابعه.، أو يسمع صرخاته وهو يكتوي بالأحماض المعدنية.. لا أحد يعرف، بل إن أحداً لم يكترث، ولم تهتم الصحف العربية بالقصة في حينها، بل اقتصر الأمر على ما نشرته الصحف الأجنبية والمنظمات الحقوقية وبعض المواقع الإليكترونية.
وفي حينها أذكر أنني نشرت عدة مقالات وتقارير حول هذه الواقعة، التي استدعت من الذاكرة سوابق شهيرة للنظام الليبي، فضلاً عن تعليقاتي الصحفية والتلفزيونية على الوصلات الكوميدية للأخ العقيد، خاصة خلال مؤتمرات القمة العربية التي يكون عادة هو "الفاكهة" فيها، والشخصية الأكثر إثارة للبهجة، وجاذبية للعدسات بين أقرانه العرب، سواء في السلوك الخارج على المألوف، أو الافتكاسات التي تتضمنها خطبه ومداخلاته على غرار دعوته لإعلان دولة "إسراطين" مثلاً.. وله في ذلك المضمار ألف حكاية وحكاية..
بعد كل هذا.. هل يمكن لصاحبكم، أن يغامر بالذهاب حتى إلى مدينة السلوم المصرية المتاخمة للحدود الليبية؟!

 ***
 أي بقعة فوق أرضك يا إلهي تتسع لعبدك الفقير، الذي لا يملك سيفًا، ولم يُشهر بندقية في وجوه الإخوة العرب، بل كل ما منحته إياه يا سيد العطايا كان "ضميرًا يقظًا".. يستعصي على التداول في بورصات الولاء، ولا يُجيد بيع الشعارات، ولم يعد يصدق الخرافات والخزعبلات؟
ولأن "صاحبكم" المنكوب بالعيش في "الشرق الأتعس"، وكل الذين على شاكلته، ممن يأبون النوم في فراش السلاطين، يجدون أنفسهم تارة في مواجهة "فزاعة التطبيع"، وأخرى متهمين في دينهم وعقيدتهم من قبل سماسرة القداسة، ممن نصبوا أنفسهم وكلاء لله تعالى على أرضه
وتارة ثالثة يشيرون إليهم صراحة وتلميحًا بالعمالة لأميركا، مع أن هؤلاء الأشاوس العرب يحجون ـ كلما سمحت لهم واشنطن ـ إلى البيت الأبيض، وييمِّمون وجوههم شطر "الكونجرس"، وفي النهاية ها هي إدارة أوباما كسابقاتها "باعت القضية"، فكل الإمبراطوريات الكبرى عبر التاريخ والجغرافيا انحازت لمصالحها العليا، رغم حديثها المملّ المخادع عن "القّيم الإنسانية".

 ***
وهكذا لا يجد المرء أملاً في شتى ربوع "الوطن العربي الكبير"، فدعونا إذن نعترف بشجاعة، بأنه لم يعد هناك من "ملاذ آمن" يمكن للمرء  أن يطمئن فيه على حياته وكرامته، سوى إسرائيل، التي ما زال بعض مدمني "الجعجعة والقعقعة" يطلقون عليها "الكيان المزعوم".
تمامًا كما حدث لعائلة "حلس" الفلسطينية في قطاع غزة، حين لم تجد من تلوذ به سوى إسرائيل من بطش مجاهدي "حماس".. وأخشى أن يأتي يوم قريب يقف فيه ملايين العرب عرايا كما ولدتهم أمهاتهم أمام مجندات "جيش الدفاع" لحمايتهم بعضهم من بعض.
إذن ما رأيكم، دام عزّكم أن نذهب إلى إسرائيل "بمزاجنا"، وباللهجة المصرية: "تيجوا نروح إسرائيل؟"، هذا على فكرة مجرد سؤال.. وكما يقال في مصر "السؤال ما حرمش".. ها.. تيجي نروح إسرائيل؟!


No comments:

Post a Comment